الأربعاء

مكتوب ~ دروس وعبر من السيرة 3



تحت مجموعةدروس وعبر من السيرة
المحاضرالدكتور/ مصطفى السباعي
تاريخ اضافة المقالهجري : 15/01/1429     ---     ميلادي : 23/01/2008
الوثيقة مترجمة الى
الاندونيسية    الصينية   
تم قراءة المقال4930
أرسل هذه الصفحة الي صديق باللغة
الاندونيسية    الصينية   
أرسل هذه الصفحة الي صديقBookmark and Share

في أهم الأحداث التي وقعت بعد فتح مكة

 إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

أ ـ غزوة حنين

 بعد أن فتح الله مكة على رسوله والمسلمين فانهارت بذلك مقاومة قريش التي استمرت إحدى وعشرين سنة منذ بدء الرسالة ، تجمعت هوازن لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانت معركة حنين التي تجد تفاصيلها في " سيرة ابن هشام " .

ونذكر من دروس هذه المعركة ما يلي:

1- ما كان من غزور مالك بن عوف وعدم استماعه لنصيحة دريد ابن الصمة حرصاً منه على الرئاسة ، واغتراراً منه بصواب فكره ، وتكبراً عن أن يقول قومه ـ وهو الشاب القوي المطاع ـ : قد أستمع إلى نصيحة شيخ كبير لم يبق فيه رمق من قوة ، ولو أنه أطاع نصيحة دريد لجنب قومه الخسارة الكبيرة في أموالهم ، والعار الشنيع في سبي نسائهم ، ولكنه الغرور وكبرياء الزعامة يوردان الشعوب موارد الهلكة ويجعلان عاقبة أمرها خسراً ، فقد أبى له غروره أن يستسلم لقوة الاسلام التي ذلت لها كبرياء قريش بعد طول كفاح وشديد بلاء ، وظن أنه بما معه من رجال وما عنده من أموال ، يستطيع أن يتغلب على قوة الاسلام الجديدة في روحها ، وفي أهدافها ، وفي تنظيمها عليه وعلى قومه ، ثم أبى له غروره إلا أن يخرج معه نساء قومه وأموالهم ليحول ذلك دون هزيمتهم ، وعدا نصيحة دريد الذي قال له : إن المنهزم لا يرده شيء ، فإنه غفل عن أن المسلمين الذين سيحاربهم لا يستندون في رجاء النصر على مال ولا عدو ولا عدة ، وإنما يستندون إلى قوة الله العزيز الجبار ، ووعده لهم بالنصر والجنة ، ولا يمتنعون عن الهزيمة رغبة في الاحتفاظ بنسائهم وأموالهم ، بل رغبة في ثواب الله وخوفاً من عقابه الذي توعد المنهزمين في ميادين الجهاد بأليم العذاب وشديد الانتقام ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَؤْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أوْ مُتَحَيِّزاً إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأوَاه جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المَصِيرِ) [ الأنفال : 16 ] .


وهكذا حلت الهزيمة بمالك وقبيلته هوازن ومن معه ، ولم يقتصر شؤم غروره وكبريائه عليه وحده ، بل أصاب قومه جميعاً ، لأنهم أطاعوه في هذا الغرور ، ولما أنذرهم بأنهم إن لم يستجيبوا له ، بقر بطنة بالسيف ، سارعوا إلى طاعته ، ولو أنهم ابتغوا نصيحة شيخهم المجرب ،وكفكفوا من كبرياء زعيمهم الشاب ، ولما أصابهم ما أصابهم ، لقد خافوا من غضب هذا الزعيم المغرور عليهم ، ولو أنهم سألوا أنفسهم : ماذا يكون لو أغضبناه ؟ لكان الجواب : انهم يفقدون زعيمهم ! وماذا في هذا ؟ ماذا في ذهاب زعيم مغرور أناني يريد أن يستأثر بشرف المعركة دون من هم أقدم وأخبر منه بالمعارك وشؤونها ؟ وهل توازي حياة شخص حياة قبيلة أو أمة من الناس بأكملها؟ لقد حذرنا الله في القرآن من نتيجة هذا الاستسلام الجماعي لأهواء المغرورين من الكبراء والزعماء ، يقول الله تعالى في قصة موسى مع فرعون ( فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأطَاعُوهُ ، إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَاً فَاسِقِينَ ، فَلمَّا آسَفُونَا ( أغضبونا باعراضهم عن الحق واتباعهم لطاغيتهم المغرور ) انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجْمَعِينَ . فَجَعْلنَاهُمْ سَلفاً  (قدوة للعقاب ) وَمَثَلاً لِلآخَرِينَ ) [ الزخرف : 54 ـ 56 ] .


2- ما كان من استعارة الرسول صلى الله عليه وسلم من صفوان وهو مشرك مائة درع مع ما يكفيها من السلاح من الكافر ، أو استعارته على أن لا يؤدي ذلك إلى قوة الكافر واستعلائه ، واتخاذه من ذلك وسيلة لأذى المسلمين وإيقاع الضرر بهم ، فقد استعار الرسول من صفوان السلاح بعد فتح مكة ، وكان صفوان من الضعف والهوان بحيث لا يقوى على فرض الشروط على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يدل على ذلك قوله للرسول حين طلب منه ذلك : أغصباً يا محمد ؟ فأجابه الرسول : " بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك " .

وفي هذا أيضاً مثل من أمثلة النبل في معاملة المسلمين لأعدائهم  المنهزمين ، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذها منه غصباً لاستطاع ، ولما قدر صفوان أن يقوم شيئاً ، ولكنه هدي النبوة في النصر ومعاملة المغلوبين ، والعف عن أموالهم بعد أن تنتهي المعركة ويلقواالسلاح ، وما علمنا أن أحداً فعل هذا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده ، وفيما شهدناه من معاملة الجيوش المنتصرة للمغلوبين وسلب أموالهم وكراماتهم وحقوقهم أكبر تأييد لما قلنا ( وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) [ الأحزاب : 4] .

3- حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  للقتال في هذه المعركة ،وكان معه أثناء عشر ألفاً : ممن خرجوا معه من المدينة فشهدوا فتح مكة ، وهم المهاجرون والأنصار ، والقبائل التي كانت تجاور المدينة ، أو في طريق المدينة ، ألفان ممن أسلموا بعد الفتح ، وكان أكثر هؤلاء ممن لم تتمكن هداية الاسلام في قلوبهم بعد ، وممن دخلوا في الإسلام بعد أن أنهارت كل آمالهم في مقاومته وإمكان التغلب عليه ، ففي هذا الجيش كان المؤمنون الصادقون الذين باعوا لله أرواحهم وأنفسهم في سبيل إعزاز دينه ، وفيه كان الضعاف في دينهم ، والمنافقون الذين أسلموا على مضض وهم ينطوون على الحقد وعدم، الإيمان بالاهداف التي يحاربون من أجلها ، وفيه الراغبون في غنائم النصر ومكاسبة ، ولذلك كانت الهزيمة أول الأمر شيئاً غير مستغرب ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كثرة من معه : " لن نغلب اليوم من قلة "  أي : إن مثل هذا الجيش في كثرة عدده لا يغلب  إلا من أمور معنوية تتعلق بنفوس افراده ، تتعلق بإيمانهم وقوة أرواحهم واخلاصهم وتضحياتهم ، وقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قاعدة جليلة ، وهي أن النصر لا يكون بكثرة العدد ،ولا بجودة السلاح ، وإنما يكون بشيء معنوي يغمر نفسي المحاربين ، ويدفعهم إلى التضحية والفداء ، وقد أكد القرآن الكريم على هذا في غير موضع ، فقال تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةٍ بِإذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرينَ ) [ البقرة : 249 ] .

 وفي الآيات التي نزلت بعد انتهاء المعركة ما يشير بصراحة إلى هذا المعنى ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلمْ تُغْنِ ِعَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَليْكُمْ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ، ثُمَّ أنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُوداً لمْ تَرَوهَا وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرينَ ) [ التوبة : 25-26] .



4- وفي قول بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى المعركة : يا رسول الله لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم :" قلتم ـ والذي نفس محمد بيده ـ كما قال قوم موسى لموسى " ( اجْعَلْ لَنَا إلَهَاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلونَ ) [ الاعراف : 138 ] إنها السنن ، لتركبن سنن من كان قبلكم : .

في هذا إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ستسلكه هذه الأمة من تقليد الأمم السابقة لها ، وفيه تحذير من ذلك ، وأنها لا تسلكه إلا من غلبة الجهالة عليها ، فالأمم التي تعرف وجوه الخير والفساد ، وطريق الضرر والنفع ، تأخذ الخير وتتسمك به ، وتعرض عن الفساد و تفر منه ، وتأبى أن تسلك أي طريق يضر بها ولو سلكته الأمم وسارت فهي ،  فإذا سارت في طريق التقليد غير عابئة بنتائجه ، كانت قد وضعت الشيء في غير موضعه ، وهذا هو الجهل الذي قال  عنه : ( إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلون ) ، والأمة الواثقة بنفسها ، المعتزة بشخصيتها ، المطمئنة إلى ما عندها من حق وخير تأبى أن تسير وراء غيرها فيما يؤذيها وينافي مبادئها ، فاذا قلدت ، كانت ضعيفة الشخصية ، مضطربة التفكير ، مستسلمة للأهواء ، متردية في الضعف والانحلال ، وتلك هي الجاهلية التي أنقذنا الله منها برسوله وكتابه وشريعته ، ليس العلم والجهل في نظر دعوات الاصلاح هما القراءة والأمية ، وإنما هما الهدى والضلال ، والوعي الغباوة ، فالأمة الواعية لما يفيدها وما يضرها ، هي الأمة العالمية ولو كانت أمية ، والأمة التي لا تهتدي إلى الخير سبيلا ، هي الأمة الجاهلة ولو كانت تعرف شتى العلوم ، وتحيط بمختلف الثقافات .

إن الذي هو ويهوي بالامم ـ أي أمة كانت ـ انما هو استيلاء الجاهلية على عواطف أبنائها وأهوائهم ، واسألوا التاريخ : هل انهارت حضارة اليونان والرومان الا بسيطرة الجاهلية عليها . إن المقلدين جهال مهما تعلموا ، أطفال مهما كبروا ، وسيظلون أولاداً جهالاً حتى يتحرروا .


5- في هذه المعركة بعد أن انهزم المسلمون أول الامر ، وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ظن شيبه بن عثمان أنه سيدرك ثأره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه قد قتل في معركة أحد ، قال شيبة : فلما اقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقتله أقبل شيء حتى تغشى فوادي ، فلم أطق ذاك ، وعلمت أنه ممنوع مني .

ولقد تكررت في السيرة مثل هذه الحادثة ، تكررت مع أبي جهل ، ومع غيره في مكة ، وفي المدينة ، وكلها تتفق على أن الله قد أحاط رسوله بجو من الرهبة أفزع الذين كانوا يتآمرون على قتله ، وهذا دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة ، وعلى أن الله قضى بحفظ نبيه من كل كيد ، وببقائه حياً ، حتى يبلغ الرسالة ، ويؤدي الأمانة ، وينقذ جزيرة العرب من جاهليتها ، ويقف بأبنائها في وجه الدنيا ، يعلمون ، ويهذبون ، وينقذون ، ولولا حماية الله لرسوله ، لقضي المشركون على حياته منذ أوائل الدعوة ، ولما كمل الدين ، وتمت النعمة ، ووصل إلينا نور الرسالة وهدايتها ورحمتها ، ولما تحول  مجرى التاريخ تحوله الذي خلص الانسانية من عمايتها وشقائها بانتشار الاسلام ، وانتهاء عهود التحكم بالشعوب ، والاستبداد بتصريف شؤونها ، من ملوك ورؤساء أقاموا سلطانهم على البغي والظلم ، ومنع الشعوب من أن تشعر بكرامتها ، أو تثأر لظلامتها ، ولقد تم كل هذا بفضل حماية الله لرسوله ، حتى أدى الأمانة كاملة غير منقوصة .

 لا جرم أن فضل الله كان على رسوله عظيماً ( وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَليكَ عَظِيمَاً ) [ النساء : 113 ] . وأن فضل رسول الله على البشر كان عظيماً ، ( وَمَا أرْسَلنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلعَالمِينَ ) [ الأنبياء : 107 ] . ولا جرم في أن نجاة دعاة الحق من كيد أعدائه ومن تربصهم بهم ، هو استمرار لذلك الفضل العظيم الذي ابتدأ بحماية رسوله .

 وأن على الدعاة أن يلجؤوا دائماً ـ بعد الاحتراس والحذر ـ إلى كنف الله ، ويحتموا بعزته وسلطانه ، ويثقوا بأن الله معهم نصير ، ولهم حافظ  وأن من أراد الله له النجاة من كيد أعداء الهداية سينجو مهما يكن سلطانهم شديد الوطأة ، عظيم الكيد والتآمر والإجرام ، فالحماية حماية الله ، والنصر نصره ، والخذلان خذلانه ، والنافذ قضائه وأمره ، ( إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ) [ آل عمران : 160] ومهما يعظم كيد الانسان الظالم ، فإن نصر الله العدل أعز وأعظم ، فلا يجبن داعية ولايخف مصلح ، ولايتأخر عن تأدية الحق مؤمن بالله  واثق بعونه وتأييده ( وَكانَ حَقاً عَليْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ ) [ الروم : 47 ] ( إنَّ الذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أولئِكَ فِي الأذَلِّينَ ، كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إنَّ اللهَ قَوَيٌّ عَزِيزٌ ) [ المجادلة : : 20 ـ 21 ] ولا ينافي هذا نجاح أعداء الله في الوصول إلى بعض أئمة الهدى من دعاة الاصلاح ، وتمكنهم من القضاء عليهم ، أو إيقاع الأذى بهم ، فإن الموت حق ، وهو نصيب ابن آدم لامحالة ، فمن يكتب عليه الموت بأيدي الظالمين ، فانما هي كرامة أكرمه الله بها ، وفضل أنعم به عليه ، وكل موت في سبيل الله شهادة ، وكل أذى في دعوة الحق شرف ، وكل بلاء بسبب الإصلاح خلود ( ذَلِكَ بِأنَّهُمْ لا يُصِيبَهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئَاً يَغِيظُ الكُفَّارَ ، وَلا يَنَالونَ مِنَ عَدُوٍّ نَيلاً إلا كُتِبَ لهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ،إنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ ) [ التوبة: 120 ] .



 6- فوجئ المسلمون أول المعركة بكمين أعدائهم لهم ، مما أدى إلى وقوع الخلل في صوف المسلمين وأضطرابهم وتفرقهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت معه إلا القليل ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ،  ينادي: إلى أيها الناس ! هلموا إلى ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبدالله ، فلم يسمع الناس صوته ، فطلب من العباس ـ وكان جهوري الصوت ـ أن ينادي في الناس ، : يا معشر الأنصار ، يا معشر أصحاب السمرة ! فأجابوا : لبيك لبيك ، فيذهب الرجل ليثني بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيأخذ درعه ، فيقذفها في عنقه ، ويأخذ سيفه وترسه  ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ، ثم يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا  اجتمع اليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا ثم كان النصر

 

في هذا الموقف عدة من العبر والدروس يجدر بدعاة الحق وجنوده أن يقفوا عندنا طويلاً ، فإن أنهزام الدعوة في معركة قد يكون ناشئاً من وهن في عقيدة بعض ابنائها  وعدم أخلاصهم للحق ، وعدم استعدادهم للتفاني في سبيلة  كما أن ثبات قائد الدعوة في الأزمات ، وجرأته ، وثقته بالله ونصره ، له أثر كبير في تحويل الهزيمة إلى نصر ،وفي تقوية قلوب الضعاف والمترددين ممن معه ، وللثابتين الصادقين من جنود الحق والتفافهم حول قائدهم الجريء المخلص  أثر كبير أيضاً في تحويل الهزيمة إلى نصر ، إن الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة أول المعركة ، ثم الذين استجابوا لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتجاوزوا مائة ، وعندئذ ابتدأ التحول في سير المعركة ، وابتدأ نصر الله لعبادة المؤمنين ، وابتدأ التحول في سير المعركة  وابتداء نصر الله لعبادة المؤمنين ، وابتداء تخاذل أعدائه ، ووقوع الوهن في قلوبهم وصفوفهم ،وكلما تذكر قائد الدعوة وجنودها أنهم على حق ، وأن الله مع المؤمنين الصادقين ، أزدادت معنوياتهم قوة ، و ازداد إقدامهم على الفداء والتضحية .

 وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا رسول الله " ، وفي رواية غير بن هشام أنه قال : " أنا النبي لا كذب " أنا ابن عبد المطلب " دلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة وثقته بنصر ربه ، وهكذا ينبغي أن يكون القائد دائما وأبداً في الشدائد ، واثقاً من نفسه ، وملتجئاً إلى ربه ، متأكداً من نصره له وعنايته به ، فإن لثقة القائد بهدفه وغايته ورسالته كبر الأثر في نجاته ولاتفاف الناس حوله ، ولها أكبر الأثر في تخفيف الشدائد على نفسه وتحمل آلامها راضياً مطمئناً .


 7- وفي موقف أم سليم بنت ملحان مفخرة من  مفاخر المرآة المسلمة في صدر الاسلام ، فقد كانت في المعركة مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببردلها وهي حامل ، ومعها جمل لابي طلحة قد خشيت أن يفلت منها ، فأدخلت يدها في خزامته ( وهي حلقة من شعر تجعل في أنف البعير ) مع الخطام ، فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها : أم سليم ؟ قالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقاتل الذين يقاتلونك ، فإنهم لذلك أهل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو يكفي الله يا أم سليم ! وكان معها خنجر ، فسألها زوجها أبو طلحة عن سر وجوده معها ! فقالت : خنجر أخذته ، إن دنا مني أحد من المشركين  بعجته به ! فأعجب بها ابو طلحة ، ولفت نظر الرسول إلى ما تقول .

 هكذا كانت المرأة  المسلمة، هكذا ينبغي أن تكون : جريئة تسهم في معارك الدفاع بحضورها بنفسها حتى إذا احتيج إليها أودنا منها الأعداء ، ردت عدوانه بنفسها كيلا تؤخذ أسيرة مغلوبة ، وللمرأة المسلمة في تاريخ الإسلام حين نشوئه صفحات مشرقة من الفداء والبلاء والتضحية والشجاعة ، مما يصفع أولئك المتعبين من المشترقين وغيرهم من الغربيين الذين زعموا لقومهم أن الإسلام يهين المرأة ويحتقرها ، ولا يجعل لها مكانهاً للائق في المجتمع في حدود رسالتها الطبيعة ، بل تمادى بهم الإفك إلى الادعاء بان الإسلام لا يفسح مجالاً للمرأة في الجنة ، فلا تدخلها مهما علمت من خير ، وقدمت من عبادة وتقوى !!


وبقطع النظر عن نصوص القرآن والسنة الصريحة في رد هذا الأفتراء ، فإن تاريخ الإسلام نفسه ، قد سجل للمرأة المسلمة ، من المآثر في نشره ، والدعوة اليه والتضحية في سبيله ما لم يسجله للمرأة دين من الأديان قط  وما وقع من أم سليم في هذه المعركة ( معركة حنين ) مثال من مئات الأمثلة الناطقة بذلك ، ونحن لا يهمنا الرد على أعداء الإسلام المتعصبين في هذا الموضوع بقدر ما يهمنا أن نتخذ من حادثة أم سليم هنا درساً بليغاً يحفزنا دعوة المرأة المسلمة من جديد للقيام بدورها الطبيعي في خدمة الاسلام ، وتربية أجيالنا المقبلة على هدية ومبادئه ، إن المرأة  المسلمة اليوم ، بين صالحة مستقيمة تكتفي من صلاحها باقامة الصلوات ، وقراءة القرآن ، والبعد عن المحرمات ، وبين منحرفة في تيار الحضارة الغربية ، قد أستبدلت بآداب الاسلام آدابها ، وبأخلاق المرأة العربية المسلمة أخلاق المرأة الغربية التي جرت عليها وعلى اسرتها وشعبها البلاء والشقاء ،

وإذا كان بعض الناس قد أخذوا على عاتقهم تجريد المرأة العربية المسلمة من اخلاقها وخصائصها التي ربت بها أكرم أجيال التاريخ سمواً ونبلاً وخلوداً في المآثر المكرمات ، فإن الإسلام وتاريخه وبخاصة تاريخ رسوله صلى الله عليه وسلم ،يهيب بها اليوم أم تتقدم من جديد لتخدم الإسلام والمجتمع الإسلامي في حدود وظيفتها الطبيعية ، ورسلتها التربوية ، وخصائصها الكريمة ، من نبل  وعفة ، وحشمة ، وحياء ، ترى هل تعيد فتياتنا المسلمات المتدينات تاريخ خديجة ، وعائشة ، وأسماء ، والخنساء وأم سليم ، وأمثالهن ؟ هل يعدن  إلينا اليوم تاريخ هؤلاء المؤمنات الخالدات ، والنجوم الساطعات ؟ هل يصعب أن يوجد فيهن اليوم عشرات من خديجة ، وعائشة ، وأسماء ، وأم سليم ؟ كلا ، ولكن التوجيه الصحيح ، والإيمان الواعي المشرق ، كفيل بذلك وأكثر منه ، فمن التي تفتح سجل الخلود للمرأة العربية المسلمة في عصرنا الحاضر ، غير عابئة بتضليل المضلين ، واستهزاء المستهزئين من أعداء الخير والحق والفضيلة والدين؟

تحت مجموعةدروس وعبر من السيرة
المحاضرالدكتور/ مصطفى السباعي
تاريخ اضافة المقالهجري : 15/01/1429     ---     ميلادي : 23/01/2008
الوثيقة مترجمة الى
الاندونيسية    الصينية   
تم قراءة المقال3797
أرسل هذه الصفحة الي صديق باللغة
الاندونيسية    الصينية   
أرسل هذه الصفحة الي صديقBookmark and Share


8- وفي هذه المعركة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد ، والناس متقصفون ( مزدحمون) عليها، فقال : ما هذا ؟ قالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه : أدرك خالدا ًفقل له :إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً ، أو امرأة ، أوعسيفاً ( أجيراً ) ...

لاشك في أن النهي عن قتل الضعفاء ، أو الذين لم يشتركوا في القتال ، كالرهبان ، والنساء ، والشيوخ ، والأطفال ، أو الذين أجبروا على القتال ، كالفلاحين ، والأجراء ( العمال) شيء تفرد به الإسلام في تاريخ الحروب تبيح للأمة المحاربة قتل جميع فئات الشعب من أعدائها المحاربين بلا استثناء ، وفي هذا العصر الذين أعلنت فيه حقوق الإنسان ، وقامت أكبر هيئة دولية عالمية لمنع العدوان ، ومساندة الشعوب المستضعفة كما يقولون ، لم يبلغ الضمير الإنساني من السمو والنبل حداً يعلن فيه تحريم قتل تلك الفئات من الناس ، وعهدنا بالحربين العالميتين الأولى والثانية تدمير المدن فوق سكانها ، واستباحة تقتيل من فيها تقتيلاً جماعياً ، كما كان عهدنا بالحروب الاستعمارية ضد ثورات الشعوب التي تطلب بحقها في الحياة والكرامة .


إن المستعمرين يستبيحون في سبيل إخماد تلك  الثورات تخريب المدن والقرى وقتل سكانها بالآلاف وعشرت الآلاف ، كما فعلت فرنسا أكثر من مرة في الجزائر ، وكما فعلت إنجلترا في أكثر من مستعمرة من مستعمراتها ، وكما تفعل اليوم البرتغال في مستعمراتها في إفريقيا .

 كما أننا لم نعهد قط في تاريخ شعب من شعوب العالم القديم والحديث النهي عن قتل العمال والفلاحين الذين يجبرون على الحرب جبراً ، ولكن الاسلام جاء قبل أربعة عشر قرناً بالنهي الصريح عن قتلهم ، ولم يقتصر الأمر على مجرد النهي تشريعاً ، بل كان ذلك حقيقة وواقعاً ، فهناك في معركة حنين ترى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وهو صاحب الشرعية ومبلغها عن الله إلى الناس ، يغضب لقتل امرأة ، ويرسل إلى بعض قواده أن لا يتعرض للنساء والأطفال والأجراء ، وحين جهز جيش أسامة لقتال الروم ـ قبل وفاته بأيام ـ كان مما أوصاهم به : الامتناع عن قتل النساء ، والأطفال ، والعجزة ، والرهبان الذين لا يقاتلون ، أولا يعينون على قتال ، وكذلك فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أنفذ بعث اسامة ، وحين كان يوجه الجيوش للقتال في سبيل الله : في سبيل الحق والخير والهدى والعدالة ،

 وكذلك فعل سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه في كل مكان ، وفي مختلف العصور هذه  المبادئ الإنسانية النبيلة التي لم يعرفها تاريخ جيش من جيوش الأرض ، وبذلك على حرص الجيش الإسلامي على هذه التقاليد معاملة صلاح الدين للصلبيين بعد أن انتصر عليهم ، واسترد منهم بيت المقدس ، فقد أعطى الأمان للشيوخ ، ورجال الدين ، والنساء ، والأطفال ، بل وللمحاربين الأشداء ، فوصلهم إلى جماعاتهم بحراسة الجيش الإسلامي ، لم يمسسهم سوء ، بينما كان والوحشية ، والدناءة ، فقد أمن الصليبيون سكان بيت المقدس المسلمين على أرواحهم وأموالهم ، إذا رفعوا الراية البيضاء فوق المسجد الأقصى ، فاحتشد فيه المسلمون مخدوعين بهذا العهد ، فلما دخل الصليبيون بيت المقدس ذبحوا كل من التجأ إلى المسجد الأقصى تذبيحاً عاماً ، وقد بلغ من ذبحوا فيه سبعين ألفاً من العلماء والزهاد ، والنساء والأطفال ، حتى إن كاتباً صليبياً رفع البشارة بهذا الفتح المبين إلى البابا ، وقال فيه مباهياً : لقد سالت الدماء في الشوارع حتى كان فرسان الصليبين يخوضون في الدماء إلى قوائم خيولهم .



 إننا لا نقول اليوم هذا للمفاخرة والمباهاة بتاريخ فتوحاتنا وقوادنا وجيوشنا التي قال فيا " لوبون " : " ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ولا أعدل من العرب " وإنما نقول هذا لننبه إلى إننا كنا أرحم  بالإنسانية وأبر بها من هؤلاء الغربيين وهم في القرن العشرين ، وإلى أن هؤلاء الغربيين حين يتحدثون الينا عن حقوق الإنسان ويوم الأطفال ، ويوم الأمهات ، تدليلاً منهم على سمو حضارتهم إنما يخدعوننا نحن ، بل يخدعون السذج والسخفاء ، وفاقدي الثقة بأمتهم وتاريخهم  ممن يزعمون أنهم أبناؤنا ومثقفونا .

 نريد أن يكون جيلنا المعاصر واعياً لهذه الدسائس ، واثقاً بدينه وتراثه الحضاري الانساني النبيل ، فلا يخضع لهؤلاء الغربيين خضوع الفقير الذليل أمام الغني القوي ، ولا يتهافت على زادهم الفكري دون تمييز بين غثه وسمينه ، تهافت الفراش على النار ليحترق بها .


لقد أثبت العالم أن الإسلام خير الأديان ، وأقربها إلى فطرة الإنسان ، وأضمنها لصلاح الناس ، وأثبت التاريخ أن حروب الإسلام أرحم الحروب وأقلها بلاءاً ، وأكثرها خيراً ، وأنبلها هدفاً ، وفي كل يوم جديد برهان جديد على أن الإسلام دين الله ، وأن محمداً رسول الله ،وأن المسلمين الصادقين صفوة عباد الله وخيرتهم من الناس أجمعين. ( سَنُرِيهِمْ آيَاِتنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنْفِسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ ، أوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ ) [ فصلت : 53] .



9- بعد أن تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من انهزم من هوازن على ثقيف بالطائف ، وحاصرها أياماً فلم تفتح عليه ، عاد إلى المدينة وفي الطريق قسم غنائم معركة حنين ، وكانت ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الأبل والشياه مالا يدري عدته ، وقد أعطى قسماً كبيراً منها للاشراف من العرب يتألفهم على الاسلام ، وأعطى كثيراً منها لقريش  ولم يعط منها للأنصار شيئاً ، وتكلم بعضهم في ذلك متألمين من حرمانهم من هذه الغنائم ، حتى قال بعضهم : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، أي إنه لم يعد يذكرنا بعد أن فتح الله مكة ودانت قريش بالاسلام ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وخطب فيهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : " يا معشر الأنصار ! مقالة بلغني عنكم ، وجدة ( أي عتب ) وجدتموها على في أنفسكم ؟ ألم تكونوا ضلاًلاً فهداكم الله ؟ وعالة فأغناكم الله ؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟  " بلى ! الله ورسوله أمن وأفضل .  ثم قال : " ألا تجيبونني يا معشر الأنصار " ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟لله ولرسوله المن والفضل ، " أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم : أتيناك مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فأويناك ، وعائلاً فأسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة ( البقية اليسيرة ) من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، وتركتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً ( هو الطريق بين جبلين ) وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ، اللهم أرحم الأنصار ، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار " فبكي القوم حق أخضلوا ( بللوا ) لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً .


 وها هنا مسائل يمكن التعليق عليها :

 أولاً : قضية الغنائم كجزء من نظام الحرب في الإسلام ، وقد اتخذها أعداؤه وسيلة للطعن فيه على أنها باعث مادي من بواعث إعلان الحرب في الإسلام ، ومنشط فعال للجنود والمسلمين يدفعون إلى التضحية والفداء ، ولذلك يتهافتون عليها بعد الحرب ، كما في هذه المعركة ، ولا ريب في أن كل منصف يرفض هذا الادعاء ، فبواعث الحرب في الاسلام معنوية تهدف إلى نشر الحق ، ودفع الأذى والعدوان ، وهذا ما صرحت به آيات وأحاديث كثيرة صريحة ، ومن الغرابة بمكان أن يضحي الإنسان بحياته ، ويعرض مستقبل أسرته للضياع ، طمعاً في مغنم مادي مهما كبر ، والطمع في المغانم المادية لا يمكن أن يؤدي إلى البطولات الخارقة التي بدت من المحاربين المسلمين في صدر الإسلام ، ولا يمكن أن يؤدي إلى النتائج المذهلة التي انتهت اليها معارك الإسلام مع العرب في حياة الرسول  ، والتي انتهت اليها معاركه مع فارس والروم فيما بعد ، على أن أعداء الإسلام لم تكن تنقصهم المطامع المادية ، فغنيمة أموال المسلمين ورقابهم في حال هزيمتهم كانت من نصيب أعدائهم حتماً ،

ولم يكن المسلمون وحدهم هم الذين يقتسمون أموال أعدائهم ورقابهم عند الانتصار عليهم ، بل كان هذا شأن كل جيوش المتحاربين  فلماذا لم تؤد المطابع المادية عند الأعداء إلى البطولات الخارقة ، والنتائج المذهلة التي كانت تبدو من الجنود المسلمين ، والتي أسفرت عنها الحروب الإسلامية ؟ وفي وقائع الحروب الإسلامية ما ينفي نفياً قاطعاً بأن الدوافع المادية كانت هي الباعث الرئيسي في نفس الجندي المسلم ، ففي معارك بدر ، وأحد ، ومؤته ، وغيرها كان البطل المسلم يتقدم إلى المعركة مؤملاً في إحراز شرف الشهادة ونعيم الجنة ، حتى كان أحدهم يقذف بالتمرة من فمه حين يسمع وعد الرسول للشهداء بالجنة ، ويخوض المعكرة وهو يقول : بخ بخ ، ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا هذه التمرات ، والله إنها لمسافة بعيدة ، ثم ما يزال يقاتل حتى يقتل ،


وكان أحدهم يبرز لقتال الأعداء وهو يقول الجنة ّ! والله إني لأجد ريحها دون أحد ( أي أقرب من جبل أحد ، وكان ذلك في معركة احد ) . وفي معارك الفرس كان جواب قائد الوفد المسلم لرستم حين عرض أن يدفع للمسلمين أموالاً أو ثياباً ليعدلوا عن الحرب ويرجعوا إلى بلادهم ، والله ما هذا الذي خرجنا من أجله ، وإنما نريد إنقاذكم من عبادة العباد الى عبادة الواحد القهار ، فإن انتم أسلمتم رجعنا عنكم ويبقى ملككم لكم ، وأرضكم لكم ، لا ننازعكم في شيء منها .. فهل هذا جواب جماعة خرجوا للمغانم والاستيلاء على الأرضي والأموال . أما أن يستشهد لتلك الدعوى الباطلة بما حصل عند تقسيم الغنائم بعد معركة حنين من استشراف نفوس كثيرين من المحاربين إليها ، وموجدة الانصار لحرمانهم منها ، فذلك المغانم من حديثي العهد بالإسلام الذين لم تتمكن هداية الإسلام من نفوسهم كما تمكنت من السابقين إليه ، ولذلك لم يستشرف لها أمثال أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عوف ، وطلحة ، والزبير ، من كبار الصحابة السابقين إلى دعوة الإسلام ، وما حصل من الأنصار إنما كانت مقالة بعضهم ممن رأوا في تقسيم الغنائم يومئذ تفضيل بعض المحاربين على بعض في مكاسب النصر ، وهذا يقع من أكثر الناس في كل عصر ، وفي كل مكان ، وهذا المعنى مما يجده كل إنسان في نفسه في مثل تلك الظروف .

وليس أدل على إرادة رضي الله وثوابه وجنته ، وطاعة رسوله عند الأنصار ، من بكائهم حين خطب صلى الله عليه وسلم فيهم ، وكان مما قاله لهم : " ألا تريدون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم " ؟ فمن فضلوا صحبة رسوله وقربهم منه وسكناه بينهم على الأموال والمكاسب ،أيصح أن يقال فيهم : إنهم إنما جاهدوا للأموال والمكاسب ؟

 
ولا معنى لأن يقال : لماذا جعل الاسلام الغنائم من نصيب المحاربين ، ولم يجعلها من نصيب الدولة كما في عصرنا هذا ؟ لأن القول بذلك غفلة عن طبيعة الناس ، وتقاليد الحروب في تلك العصور ، فلم يكن الجيش الاسلامي وحده دون الجيش الفارسي أو الرومي هو الذي يقتسم أفراده أربعة أخماس الغنائم ، بل كان ذلك شأن الجيوش كلها ، ولو أن مجتهداً اليوم ذهب إلى أن غنائم الجيش الإسلامي في عصرنا الحاضر تعطي للدولة ، لما كان بعيداً عن فقه هذه المسألة وفق مبادئ الاسلام وروحه .


 ثانياً ـ أن إغداق العطاء للذين أسلموا حديثاً ، يدل على حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفته بطبائع قومة ، وبعد نظره في تصريف الأمور ، فهؤلاء الذين ظلموا يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويمتنعون عن قبول دعوته ، حتى فتح مكة ، والذين أظهر بعضهم الشماتة بهزيمة المسلمين أول المعركة ، لا بد من تأليف قلوبهم على الاسلام وإشعارهم بفضل دخولهم فيه من الناحية المادية التي كانوا يحاربونه من أجلها ، إذ كانوا ـ في الحقيقة ـ إنما يحاربونه وهم أشراف القوم إبقاء على زعامتهم ، وحفاظاً على مصالحهم المادية ،فلما خضد الاسلام  من شوكتهم بفتح مكة ، كان من الممكن أن يظلوا في قرارة أنفسهم حاقدين على هذا النصر ، واجدين من هزيمتهم وانكسارهم ، والاسلام دين هداية وإصلاح ، فلا يكتفي بفرض سلطانه بالقهر والغلبة ، كما تفعل كثير من النظم التي تعتمد في قيامها وبقائها على القوة دون استجابة النفوس والقلوب ، بل لا بد من تفتح القلوب له ، واستبشارها بهدايته ، وتعشقها لمبادئه ومثله ، وما دام العطاء عند بعض الناس مفيداً في استصلاح قلوبهم وغسل عداوتهم، فالحكمة كل الحكمة أن تعطي حتى ترضى ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 ولقد علم الله أن دعوته التي انتصرت اخيراً في جزيرة العرب ، لا بد من أن تمتد إلى شرق الدنيا وغربها ، فلا بد من إعداد العرب جميعهم لحمل هذه الرسالة ، والتضحية في سبيلها فإذا صلحت نفوس أشرافهم بهذه الاعطيات ، وتفتحت قلوبهم بعد ذلك لنور الدعوة ، وحمل أعباءها ، وهذا هو الذي حصل ، فانه بعد أن تألف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوب هؤلاء الزعماء ، زالت من نفوسهم كل موجدة وحقد على الاسلام ودعوته ، فلما أنساح الجيش الاسلامي في الأرض للتبشير بمبادئ الاسلام ، إخراج الناس من ظلمتهم إلى نوره ، كانت الجزيرة العربية مستعدة لهذا العمل التاريخي العظيم ، وكان هؤلاء الرؤساء المؤلفة قلوبهم من أوائل الراضين المندفعين لخوض معركة التحرير ، وقد أثبت التاريخ بلاء كثير منهم في الفتوحات بلاءً حسناً ، كما كان لكثير منهم بعد ذلك فضل كبير في تثبيت دعائم الإسلام خارج الجزيرة ، وإرادة مملكته الواسعة ، وقيادة جيوشه المتدفقة .

ولا يضر هؤلاء المجاهدين أنهم كانوا في أول إسلامهم ممن ألفت قلوبهم على الإسلام ، أو تأخر دخولهم فيه عن فتح مكة ، فكثيراً ما يلحق المتأخر بالسابق ، ويدرك الضعيف فضل القوى ، ويخلص العمل من لم يبدأ مخلصاً ، وقد قال الحسن رحمه الله : طلبنا هذا العلم لغير الله ، فأبى إلا أن يكون لله . وقال غيره : طلبنا هذا العلم ولم تكن لنا فيه نية ، ثم حضرتنا النية بعد . وحسب المتأخرين أن الله وعدهم بالحسنى ،كما قال تعالى ؟ ( لا يَسْتَوى مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلْ أوْلئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الذِينَ أنفَقُوا مِنْ بَعْدُ ، وَقَاتلُوا ، وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلونَ خَبِيرٌ ) [ الحديد : 10] .

ثالثاً ـ وفي جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار واسترضائهم على حرمانهم من المغانم ، دليل على حسن سياسته صلى الله عليه وسلم ، ودماثه خلقه ، فهو حين بلغه ما قاله بعضهم بشأن الغنائم ، اهتم باسترضائهم وجمعهم لذلك ، وقال لهم ذلك القول الحكيم  مع أنه يعلم أنهم يحبونه ويتبعونه ، وقد بذلوا في سبيل الله دماءهم وأموالهم ، فليس يخشى عليهم ما ينقص من أيمانهم ، ، ولكنه أحب أن يزيل ما علق في أذهان بعضهم حول هذا الموضوع ، وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم ، فإن الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم ، والشيطان خبيث الدس ، سريع المكر ، فلا يهمل القادة استرضاء أنصارهم مهما وثقوا بهم .

ثم أنظر إلى ذلك الأسلوب الحكيم المؤثر الذي سلكه عليه الصلاة والسلام لاسترضائهم وإقناعهم بحكمه ما فعل ، فقد ذكر فضلهم على دعوة الإسلام ، ونصرتهم لرسوله ، ومبادرتهم إلى التصديق به حيث كذبه قومه وطاردوه ، بعد أن ذكرهم بفضل الله عليه في إنقاذهم من الضلالة والشتات والعداوة  ليسهل عليهم كل ما فاتهم من مال الدنيا بجانب ما ربحوه من السعادة والهداية ، وبذلك أكد لهم أمرين : أنه لم ينحز إلى قومه وينسى هؤلاء ،  أنه كان حين حرمهم الغنائم ، إنما كان يعتمد على قوة دينهم ، وعظيم إيمانهم ، وحبهم لله ولرسوله ، و ليس بعد هذا الأسلوب أسلوب أبلغ في استرضاء ذوي الفضل والسبق في الدعوة ممن آمنوا بها مخلصين صادقين ، لا يرجون جزاءً ولا شكوراً . فصلى الله وسلم عليه ما أصدق قول الله فيه: ( وَإنَّكَ لعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [ ن : 5].



رابعاً ـ ان موقف الأنصار بعد أن سمعوا كلامه ، أروع الأمثلة في صدق الإيمان ، ورقة القلوب ، وتذكر فضل الله في الهداية والتقوى ، فقد ذكروا أن الفضل لله ولرسوله فيما قاموا به من النصرة والتأييد والجهاد ، وأنهم لولا الله لما اهتدوا ، ولولا رسوله لما استضاءت قلوبهم وبصائرهم ، ولولا الإسلام لما جمع الله شملهم بعد الشتات ، وصان دماءهم بعد الهدر ، وأنقذهم من سيطرة اليهود إلى عز الإسلام وخلصهم من جيرانهم المستغلين ، ثم أعلنوا إيثارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ما تفيض به الدنيا من مال ومتاع ، ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة لهم ، ولأولادهم ولأولاد أولادهم . سالت مدامعهم فرحاً بعناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ودعوته المستجابة لهم ، فهل بعد هذا دليل على صدق الإيمان ، وهل هناك حب اسمي وأروع من هذا الحب ؟ رضي الله عنهم وأرضاهم ، وخالد ذكراهم في العالمين ، وألحقنا بهم في جنات النعيم ، مع رسوله الحبيب العظيم ، والذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والمقربين .

 وأخيراً فان هذا الموقف وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار ، مما يجب أن يتذكره كل داعية ، وأن يحفظه كل طالب علم ، فانه مما يزيد في الإيمان ، ويهيج لواعج الحب والشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين .

تحت مجموعةدروس وعبر من السيرة
المحاضرالدكتور/ مصطفى السباعي
تاريخ اضافة المقالهجري : 15/01/1429     ---     ميلادي : 23/01/2008
الوثيقة مترجمة الى
الاندونيسية    الصينية   
تم قراءة المقال5899
أرسل هذه الصفحة الي صديق باللغة
الاندونيسية    الصينية   
أرسل هذه الصفحة الي صديقBookmark and Share


تابع لما بقي من اهم الاحداث التي وقعت بعد فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم رقم 3

ب ـ تحطيم الأصنام                        

كان إبراهيم عليه السلام ـ وهو أبو الأنبياء بعد نوح ـ ممن حارب الوثنية في قومه ، حتى حاول قومه إحراقه بالنار ، كما يحكي القرآن الكريم ، ولما جاء إلى مكة أودع ولده إسماعيل عليه السلام فيها مع أمه ، فلما شب إسماعيل عليه السلام بنيا الكعبة معاً لتكون بيتاً يعبد الله عنده ، ويحج الناس اليه ، وتكاثر ولد إسماعيل ـ وهم العرب المستعربة ، كما يسميهم المؤرخون ، واستمروا لا يعرفون عبادة الأوثان والأصنام ، ثم كان من عبادتهم أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن ، إلا أحتمل معه حجراً من حجارة الحرم ، تعظيماً للحرم ، وصبابه بمكة ، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة ، تيمناً منهم بها ، وحباً منهم للحرم ، وشوقاً اليه ، واستمروا كذلك حتى أدخل فيهم " عمرو بن الحي " عبادة الأوثان ـ وكان ذلك قبل البعثة النبوية بخمسمائة سنة على ما يقولون ـ فهو أول من غير دين إسماعيل عليه السلام ، وكان من أمره أنه تولى حجابه البيت بعد إجلاء جرهم عن مكة وما حولها ، ثم مرض مرضاً شديداً ، فقيل له : إن بالبلقاء من الشام حمة ـ وهي التي يقال لها " الحمة " الآن ـ إن اتيتها برأت ، فاتاها فاستحم بها فبرأ ، ووجد أهلها يعبدون الاصنام فقال : ما هذه ؟ فقالوا : نستسقي بها المطر ، ونستنصر بها على العدو ، فسألهم أن يعطوه منها ، ففعلوا ، فقدم بها مكة ، ونصبها حول الكعبة  ، وانتشرت بعد ذلك عبادة الأصنام في جزيرة العرب ، حتى كان لأهل كل دار في مكة صنم يعبدونه في دارهم ، فاذا أراد أحدهم السفر ، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفره ، كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً .



 ثم أولعت العرب بعبادة الأصنام ، فمنهم من اتخذ بيتاً ، ومنهم من أتخذ صنماً ، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت ، نصب حجراً أمام الحرم ، وأمام غيره مما استحسن ، ثم طاف به كطوافه بالبيت ، وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً ، أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً ،  وإذا ارتحل تركه ، فاذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك .

وكان للعرب ثلاثة أصنام كبرى تعظمها ، وتحج اليها، وتنحر لها الذبائح :
أقدمها " مناة " وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد ، بين المدينة ومكة ، وكان العرب جميعاً تعظمه ، وأشدهم إعظاماً له الأوس والخزرج ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، أرسل إليه علياً  ، فهدمه ، وأخذ ما كان له ، وأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما أخذ : سيفان ، كان الحارث بن ابي شمر الغساني ملك غسان أهداهما له ، والحارث هذا هو الذي قتل شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه حين سلمه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم غيره .

وثانيها " اللات " وكانت بالطائف ، وهي صخرة مربعة ، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها ، فلما جاء وفد ثقيف بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة إلى المدينة ، طلب وفدها منه عليه الصلاة والسلام أن يدع لها اللات ثلاث سنين لا يهدمها ، فأبي ذلك عليهم ، فلازالوا  يسألونه سنة سنة وهو يأبى عليهم ، حتى سألوا شهراً واحداً ، فأبى عليهم .

قال ابن هشام : وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ، ونسائهم وذراريهم ، ويكونون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها ،فلما أخذ المغيرة يضربها بالمعول ، خرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها ويقلن :

لتُبْكينَّ دُفَّاع            أسْملها الرُّضَّاع

لمْ يُحْسِنُوا المِصَاع

 يردن بذلك : واحسرتا عن التي كانت تدفع عنا أعداءنا ، وتدفع عنا البلاد ، قد أسلمها اللئام للهدم ،فلم يدافعوا عنها ، ولم يجالدوا  بالسيوف في سبيلها .

وثالثها " العزى " كانت عن يمين المسافر من مكة إلى العراق ، وكانت قريش تخصها بالإعظام ، فلما نزل القرآن يندد بها وبغيرها من الأصنام ، أشتد ذلك على قريش ،ولما مرض أبو أحيحة وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه ، دخل عليه أبو لهب يعوده ، فوجده يبكي ، فقال :  ما يبكيك يا أبا أحيحة ؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه ؟ قال : لا ، ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعدي ! قال أبولهب : والله ما عبدت في حياتك لأجلك ، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك ، فقال أبو أحيحة : الآن علمت أن لي خليفة ! .. وأعجبه شدة نصبه في عبادتها .

فلما كان عام الفتح دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، وأمره أن ينطلق بهدمها ، فلما جاءه خالد، قال سادنها دينبة بن حرمي الشيباني :

أعُزاء شدِّي شدة لا تكذبي      على خالد القي الخمار وشمري
فانك إلا تقتلي اليوم خالدا       تبوئي بذلٍّ عاجل وتنصرَّي
 فقال خالد :


 يا عُّزَّ كُفْرانك لا غفرانك    اني رأيت الله قد أهانك
وقد زعموا أنها كانت حبشية ، ناقشة شعرها ، واضعة يدها على عاتقها في داخل شجرة كان قد قطعها خالد ، فبرزت له بهذا الشكل، فضربها ففلق رأسها ، فاذا هي حممة ( أي كالفحم ) والسام: " تلك العزى ، ولا عزى بعدها للعرب، أم إنها لن تعبد بعد اليوم ". تلك هي اشهر أصنام العرب في الجاهلية ، وهي التي ذكرها القرآن الكريم بقوله: ( أفَرَأيْتُمْ اللاتَ وَالعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَة الأخْرَى ) [ النجم ؟ 19ـ 20 ] .


 


ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت الحرام يوم فتح مكة ، رأى صور الملائكة وغيرهم ، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال : "قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن إبراهيم والأزلام ؟ " ( مَا كانَ إبْرَاهيمُ يَهُودِياً وَلا نَصْرَانِياً ، وَلكنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ، وَمَا كَانَ مِنَ المُشْركينَ ) [ آل عمران :68 ] ثم أمر بتلك الصور كلها ، فطمست .

 

قال ابن عباس : دخل رسول الله مكة يوم الفتح على راحلته ، فطاف عليها ، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول : (جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِل إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً ) [ الاسراء : 81 ] فما أشار إلى صنم منها في وجه إلا وقع لقفاه ، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه ، حتى كانت أصنام جزيرة العرب كلها قد سقطت عن عروشها ، وكفر بها عبادها ، وأصبح من كان يعبدها بالامس يخجل من تفاهه رأيه إذا كان يعبد حجراً لا يضر لا ينفع ولا يغني عن حوادث الدهر شيئاً .



لقد قامت رسالة الإسلام  أول ما قامت على التشهير بهذه الأصنام الآلهة ، والتشنيع على عبادتها والدعوة إلى دين الفطرة : عبادة الله خالق الكون ورب العالمين ، وقامت جزيرة العرب وفي مقدمتها قريش هذه  الدعوة ، ورأت فيها عجباً عجاباً ( أَجَعَل َالآلِهَةَ إلهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لشَيءُّعُجَاب ) [ ص :5 ] .

 
وماجت جزيرة العرب واضطربت لهذا الدين الجديد ، وحاولت وأده والقضاء على رسوله بكل وسيلة ، ولكن النصر كان أخيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نضال استمر إحدى وعشرين سنة . فافتتح عاصمة الوثنية ، وحطم آلهتها  ،  وهزم جيوشها ، وتغلب على مؤامرات زعمائها ، هل يصدق العقل أن ذلك كله قد تم خلال هذه الفترة القصيرة ،  ( وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى ) [ الانفال : 17] .

لقد أنهى محمد بن عبدالله مأساة العرب الفكرية التي استمرت زهاء خمسمائة عام أو تزيد ، وحرر العقل العربي في أغلال الوثنية وخرافاتها ، وأنقذ الكرامة العربية من مهانة الوثنية وحقارتها ، وفتح أبواب الخلود للعرب يدخلون منه ثم لا يخرجون ، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " لاعزى بعدها للعرب ، إما إنها لن تعبد بعد اليوم " فقد ودعت جزيرة العرب حياة الوثنية إلى الأبد ، وبلغ العقل العربي سن الرشد ، فلم يعد يرضى بعودته إلى طفولته : طفولة الوثنية التي تحمل صاحبها على أن يضع جبهته عن أقدام حجارة صماء بكماء ، ولقد قامت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حروب وفتن ، وادعى النبوة من ادعاها ، وعارض القرآن من عارضة ، ولكنا لم نسمع أن عربياً وأحداً فكر في العودة إلى الوثنية وآلهتها ، ذلك أن الراشد لن يعود طفلاً ، و كل ذلك إنما تم بفضل محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، فله على كل عربي إلى انتهاء الدنيا فضل الإنقاذ والتحرير ، ثم فضل زيادة الهدى لشعوب الأرض  من اتبع الهدى ومن أعرض عنه ، وجل الله حين يقول (هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الأمِّيينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَليْهِمْ آيَاتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةِ ، وَإن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لفِي ضَلالٍ مُبين ) . [ الجمعة :  ] .


ج-  غزوة تبوك

وأهم ما في هذه الغزوة من عبر ودروس

هو ما نوجز الكلام عنه

أولاً ـ كان سبب هذه الغزوة أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام وأن هرقل قد رزق أصحابه سنة ،وأنضمت اليه من القبائل العربية لخم ، جذاع ، وغسان ، وعامل ، ثم قدموا طلائعهم إلى البلقاء ـ كور من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى ، فلما بلغ ذلك رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، ندب الناس للخروج إلى تبوك ، ودعاهم إلى التأهب والاستعداد ، ودعا الاغنياء إلى البذل والإنفاق .

 وهذا يفسر لنا طبيعة الحرب في الإسلام ، فهي ليست عدوانية ، لا استفزازية ، ولكنها للدفاع عن الدين والبلاد ، وردع المعتدين ، ومنهم عن الأذى والفساد ، وهذا ما سحرت به آيات كثيرة من القرآن الكريم ، وقد تكلمنا عن أسباب مشروعية الحرب في الاسلام ، وأهدافه ، وطريقه ، في مذكرات السنة الأولى . وفي خروج رسول الله  إلى تبوك بعد تأهب الروم وجمعهم للجموع تأييد لما قلناه هناك . وفي انضمام بعض القبائل العربية إلى الروم ضد المسلمين ، دليل عن أن الإسلام ورسالته التحريرية للناس عامة وللعرب خاصة ،  ولو كانوا يعلمون ذلك لأبوا أن يكونوا أعواناً للروم على أبناء قومهم من العرب المسلمين .



ثانياً ـ لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للتأهب في وقت عسر وحر وموسم لجني الثمار، فأما المؤمنون الصادقون ،فقد سارعوا إلى تلبيتهم للرسول غير عابئين بمشقة ولا حرمان ، وأما المنافقون،  فقد تخلفوا ، واخذوا يعتذرون بشتى الأعذار، وهكذا يتبين المخلصون من المنافقين في أيام الشدائد ، وينكشف أمر الأدعياء في أيام الشدائد ، و في أيام المحن  ، وقد قال الله تعال : " آلم . أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَليَعْلمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَليَعْلمَنَّ الكَاذِبِينَ )[ العنكبوت : 1ـ2 ] .


وإنما تقوم الدعوات ، و تنهض الأمم بتطهير صفوفها من المنافقين والمخادعين ولا يثبت للشدة إلا كل صادقة العزيمة ، مخلص النية ، ثابت المبدأ ، كثيراً ما عوق الضعاف والمخادعون سير دعوات الاصلاح في الأمة ، وحالوا بينها وبين النصر ، أو أخروها ولو إلى حين ، ولقد تلخص جيش العسرة في غزوة تبوك من أمثال هؤلاء بفضل افتضاح أمرهم ، وانكشاف ضعف إيمانهم ، وخور عزائمهم ، وإن جيشاً متراض الصف ، متحد الكلمة ، صادق العهد ، أجدى للأمة ـ ولو كان قليل العدد  ـ وأدعى الاكتساب النصر من جيش كثير العدد ، متفاوت  الفكرة والقوة والثبات " كم مِّنْ فِئَةٍ قَليِلةٍ غَلبَتْ فِئَةً كثِيرَةً بِإذْنِ اللهِ ، واللهُ مَعَ الصَّابِرينَ " [ البقرة:249 ].




ثالثاً ـ أن في مسارعة الموسرين من الصحابة إلى البذل  والإنفاق ، كأبي بكر، وعمر ، وعثمان ، وغيرهم ، دليلاً على ما يفعله الإيمان في نفوس المؤمنين من مسارعة إلى فعل الخير ومقاومة لأهواء النفس وغرائزها ، مما تحتاج إليه كل أمة ، وكل دعوة ، لضمان النصر على أعدائها ، وتأمين الموارد اللازمة  لها وهذا ما نجد أمتنا اليوم أشد الحاجة إليه ، فالأعداء كثر ، والاعباء ثقيلة ، والمعركة رهيبة ، والعدو قوي ماكر ، فلا نستطيع التغلب عليه إلا بمزيد من التضحيات في الأموال والأنفس والأهواء والشهوات ولا يحق ذلك إلا الدين الصحيح المفهوم على حقيقته الذي يربي النفوس على احتساب الأنفاق والتعب في سبيل الأمة جهاداً يثيب الله عليه كما يثب المجاهدين في ميادين النضال .

 
وخير ما يفعله المصالحون وزعماء النهضات ، هو غرس الدين في نفوس الناس غرساً كريماً ، ولكن مقاومة للدين ، أو دعوة إلى التحرر منه  ، أو تظاهر بالاستخفاف من شأنه  جريمة وطنية تؤدي إلى أسوأ النتائج ، واخطر الآثار ، كذلك علمنا الله ، وكذلك أثبت لنا التاريخ في الماضي ، وأثبتت التجربة في الحاضر ، وكل إنكار لهذه الحقيقة مغالطة لا يلجاً إليها إلا الذين لم يتلخص للحق نفوسهم ، ولم تتفتح للخير أفئدتهم ، ولم تتحلى بالسمو والنبل طباعهم .



رابعاً ـ وفي قصة الذين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون أن يأخذهم معه إلى الجهاد ، فردهم لأنه صلى الله عليه وسلم   ما يجد ما يحملهم عليه . فولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً على حرمانهم من شرف الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في هذه القصة التي حكاها الله في كتابه أروع الأمثلة على صنع الإيمان للمعجزات ، فطبيعة الإنسان أن يفرح لنجاته من الأخطار ، وابتعاده عن الحروب ، ولكن هؤلاء المؤمنين الصادقين بكوا من أجل  ذلك ، إذا اعتبروا أنفسهم قد فاتهم  حظ كبير ..وأي خسارة تلحق بالامة حين تخلو من أمثال هؤلاء ؟



خامساً ـ وفي قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد إيثاراً للراحة على التعب ، والظل على الحر ، والإقامة على السفر ، من  أنهم مؤمنون صادقون ، درس اجتماعي من أعظم الدروس ، فقد استيقظ الإيمان في نفوسهم بعد قليل ، فعلموا أنهم ارتكبوا بتخلفهم عن رسول الله والمؤمنين إثماً كبيراً ، ومع هذا فلم يعفهم ذلك من العقوبة ، وكانت عقوبتهم قاسية رادعة ، فقد عزلوا عن المجتمع عزلاً تاماً، و نهي الناس –حتى زوجاتهم- عن كلامهم والتحدث إليهم ، ولما علم الله منهم صدق التوبة ، وبلغ منهم الندم والألم والحسرة مداه ، تاب الله عليهم ، فلما بشروا بذلك كانت فرحتهم لا تقدر ، حتى أنسلخ بعضهم عن ماله وثيابه شكراً لله على نعمة الرضى والغفران 



إن مثل هذا الدروس تمنع المؤمن الصادق في إيمانه عن أن يتخلف عن عمل يقتضيه الواجب أو يرضى لنفسه بالراحة والناس يتعبون ، و يبتئسون ، وتلك هي طبيعة الإيمان : أن تشعر دائماً وأبداً أنك فرد من  جماعة ، و جزء من كل ، وأن ما يصيب الجماعة يصيبك ، وما يفيدها  يفيدك  ، وأن النعيم لا معنى له من شقاء الأمة و بؤسها ، والراحة لا لذة لها مع تعب الناس وعنائهم ، وأن التخلف عن الواجب نقص في الإيمان ، وخلل في الدين ، وإثم لا بد فيه من التوبة والانابة . كما تعطينا القصة درساً بأن العقيدة فوق القرابة، وأن تنفيذ النظام  المشروع مقدم على طاعة الهوى والعاطفة، وأن القرابة لا تغني شيئاً إزاء غضب الله  ومقته( فَلْيَحْذَرالذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ ) [ النور :63 ] .


 د ـ حجة الوداع

كانت حجة الوداع هي الحجة الوحيدة التي أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة ، توافدالناس إلى الحج من  مختلف أنحاء الجزيرة العربية حتى بلغوا ـ  كما قال بعض المؤرخين ـ مائة وأربعة عشر ألفاً ، ونحسب أن هذا العدد تقديري ، وإلا فكيف أمكن إحصاؤهم وتحديد عددهم بهذا القدر ؟

وقد خطب  رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته الشهيرة التي يجب أن يحفظها  كل طالب علم ، لما تضمنته من إعلان المبادئ العامة للاسلام ، وهي آخر خطبه صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء فيها :  " أيها الناس ، اسمعوا قولي ، لا أدري لعلي لا ألقاكم  بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً " - وهذا من معجزات رسوله صلى الله عليه وسلم  - أيها الناس ، إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وحرمة شهركم هذا ، و إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل رباً موضوع ، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله  أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله ، وإن كل دم في الجاهلية موضوع ، وإن أول  دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ـ وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ـ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية .

أما بعد أيها الناس ، فإن  الشيطان قد يئس من أن يعبد  بأرضكم هذه أبداً  ، ولكنه إن يطع فيها سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذورا على دينكم .

أيها  الناس إن النسيء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفورا يحلونه عاماً ، ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ، ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاثة متوالية ، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان .  أما بعد  أيها الناس فإن لكم على نسائكم حقاً ، ولهن علكيم حقاً  لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبنية ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان ، لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله .

فاعقلوا أيها الناس قولي ، فإني قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به ، فلن تضلوا  أبداً ، أمراً بيناً ، كتاب الله وسنة نبيه ، أيها الناس أسمعوا قولي وأعقلوه ، تعلموا أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه  ، فلا تظلموا أنفسكم ، اللهم هل بلغت ؟ " .

إن أول ما يلفت النظر فى حجة الوداع هذا الجمهور الضخم الذين حضروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من مختلف أنحاء الجزيرة العربية ، مؤمنين به ، مصدقين برسالته ، مطيعين لأمره ، وقد كانوا جميعاً قبل ثلاثة وعشرين سنة فحسب على الوثنية والشرك ، ينكرون مبادئ رسالته ، ويعجبون من دعوته إلى التوحيد ،  وينفرون من تنديده بآبائهم الوثنيين ، وتسفيهه لاحلامهم ، بل كان كثير منهم  قد ناصبوه العداء ، وتربصوا به الشر ، وبيتوا على قتله ، وألبوا عليه الجموع ، وجالدوه بالسيوف والرماح ، كيف تم هذا الانقلاب العجيب في مثل هذه المدة القصيرة ، وكيف استطاع صلى الله عليه وسلم  أن يحول هذه الجموع من وثنيتها وجاهليتها وترديها وتفرقها إلى توحيد الله  ووحدة الهدف والغاية ؟ وكيف كسب حب هذه القلوب بعد عداوتها ، وهي المعروفة بشدة الشكيمة وعنف الخصام ؟ ألا إن إنساناً مهما بلغت عبقريته ودهاؤه ، وقوة شخصيته ليستحيل أن يصل إلى هذا في مئات السنين ، وما سمعنا بهذا في الأولين والآخرين ، إن هو إلا صدق الرسالة ، وتأييد السماء ، ونصرة الله، ومعجزة الدين الشامل الكامل الذي أتم الله به نعمته على عباده ، وختم به رسالاته للناس ، وأراد أن ينهي به شقاء أمة كانت تائهة في دروب الحياة ، مستذلة للأهواء والعصبيات ، وأن يدلها على طريق الهداية ، ويفتح أعينها لأشعة الشمس ، ويقلدها قيادة الأمم ، ويحول بها مجرى التاريخ ، ويحمي بها مهانة الإنسان ، ويورثها الحكمة والكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب .



مائة وأربعة عشر ألفاً كانوا له مكذبين ، أصحبوا له مصدقين ، وكانوا محاربين ، فأصبحوا له مذعنين ، وكانوا له مبغضين ، فأصبحوا له محبين ، وكان عليه متمردين ، فأصبحوا له طائعين ، كل ذلك في ثلاث وعشرين من السنين .. ذلك هو صنع الله الحق المبين ، فتعالى الله عما يشركون ، وتنزهت ذات رسوله عما يقول الملحدون ، وسبحان ربك رب العزة عما  يصفون ، وسلام على المرسلين ،  والحمد لله رب العالمين .

وثاني ما يلفت النظر في حجة الوداع هذا الخطاب القوي المحكم الذي خاطب به رسول صلى الله عليه وسلم الناس أجمعين ، وتلك المبادئ التي أعلنها بعد إتمام رسالته ونجاح قيادته ، مؤكدة للمبادئ التي أعلنها في أول دعوته ، يوم كان وحيداً مضطهداً ، ويوم كان قليلاً مستضعفاً ، مبادئ ثابتة لم تتغير في القلة والكثيرة ، والحرب والسلم ، والهزيمة والنصر ، وإعراض الدنيا وإقبالها ، وقوة الأعداء وضعفهم ، بينما عرفنا في زعماء الدنيا تقلباً في العقيدة والمبدأ ، وتبايناً في الضعف والقوة ، وتغيراً في الوسائل والأهداف ، يظهرون خلاف ما يبطنون ، وينادون بغير ما يعتقدون ، ويلبسون في الضعف لبس الرهبان ، وفي القوة جلود الذئاب ، وما ذلك إلا لأن هؤلاء رسل المصلحة ، وأولئك رسل الله وشتان بين من يحوم فوق الجيف ، وبين من يسبح في بحار النور ، شتان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ( اللهُ وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إلى النُّورِ وَالذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُوَنَهُمْ مِنَ النُّورِإلى الظُّلمَاتِ أوْلئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  ) [ البقرة : 257]



هـ -  بعث أسامة

 إن أخر ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشر الدعوة وحمايتها ،  ورد غارة المعتدين على الدولة الجديدة والمتربصين بها أن جهز جيشاً إلى  الشام تحت قيادة أسامة بن زيد وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، وقد كان في هذا الجيش جميع المهاجرين والأنصار، ومن كان حول المدينة من المسلمين ، لم يتخلف منهم أحد ، لما كان الجيش في ظاهر المدينة يتأهب للمسير ابتدأ مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه ، فتوقف الجيش عن السير انتظاراً لشفاء الرسول ، ورغبة في تلقي تعاليمه وهدية ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي بعد  أيام ، واختاره الله إلى جواره بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة ، وهيأ جزيرة العرب كلها لحمل لواء الاسلام ، ونشر حضارته وتعاليمه في أنحاء الأرض ، وبعد أن تكون الجيش الذي يقوم بحمل أعباء هذه الأمانة العظيمة الأثر في التاريخ ، بعد أن تهيأ جنوده الصالحون لخوض معاركها ، والقادة الأكفاء لقيادة حروبها ، والرجال العظماء الصالحون لادارة دولتها ، فصلى الله وسلم على رسوله ، وجزاه الله عنا وعن الإنسانية خير الجزاء ، فلولاه ولولا جنوده الأوفياء الذين أدوا الأمانة من بعده لكنا الآن في  ضلال مبين .


لقد أكرم الله رسوله بما لم يكرم نبياً من قبله ، إذا طالت حياته حتى رأى ثمرة دعوته وكفاحه تلف الجزيرة  كلها، فتطهرها من الأوثان تطهيراً أبدياً ، وتجعل الذين حطموا هذه الأصنام بأيديهم فرحين بنعمة الله في أنقاذهم من الضلال ، هم الذين عبدوها من قبل ، وعفروا لها وجوههم بالسجود لها ، وطلب الزلفى عندها ، ثم تجعل هؤلاء مستعدين تمام الاستعداد للانسياح في الأرض ، يحملون إلى الناس نور الهداية التي أنعم الله عليهم بها ، إنه جيل واحد في الذين كان يعبد الأصنام ويؤلهها ويعش في جاهليته هملاً مبعثراً ا لكفاءات والمواهب ، ثم هو الذي حطم الأوثان ، وأقام الدولة العربية الاولى في تاريخ العرب كله ، التي تحمل رسالة وتحدد هدفاً ، وتقف من أقوى أمم الأرض حولها موقف المعلم المنقذ ،والرائد المعتز بما  يحمل من هدى ونور وخير المشفق على ما كانت تتردى فيه الأمم من جهالة وظلام وانحلال ، بينما كان العرب ينظرون اليها قبل الاسلام  نظر الإكباروالإعظام ، ويقفون منها موقف التبعية السياسية والفكرية الاجتماعية ، إنه حدث فريد في التاريخ قديمة وحديثه ، وليس بعث أسامه إلا عنوان هذا الحدث ونتائج هذه الرسالة الميمونة المباركة . ثم  يتجلى من جعل رسول الله الحدث ونتائج هذه الرسالة الميمونة المباركة .


 قيادة الجيش لأسامة بن زيد و هو شاب في سن العشرين وتحت لوائه شيوخ المهاجرين والأنصار ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وهم من هم في سبقهم إلى الإسلام ، وحسن بلائهم فيه ، وتقدمهم في السن والمكانة على أسامة ، إن في هذا سنة حميدة من سنن الإسلام في إلغاء الفوارق بين الناس من حيث السن والفضل  وتقديم الكفء الصالح لها مهما يكن سنة ومكانته ، ثم في رضي هؤلاء العظماء الذين أثبت التاريخ انه لم ينجب  مثلهم في عظمتهم وكفاءاتهم ، على أن يكونوا تحت إمرة أسامة الشاب ، ما يدل على مدى التهذيب النفسي والخلقي الذي وصلوا اليه بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهدايته وتربيته وإرشاده .


إن في تأمير أسامة على  عمر وعثمان وعلي ، سابقة عظيمة لم تعهدها أمة من  الأمم ، تدل على وجوب فسح المجال لكفاءات الشباب وعبقرياتهم ، وتمكينهم في قيادة الأمور حين يكونون صالحين لذلك ، وهذا درس عظيم لو بقي المسلمون يذكرونه من بعد لاختفت من تاريخ الإسلام  محن وكوراث ، ومن تاريخ دولته عواصف وفتن زعزعت أركانها  وأضعفت من قوتها ، فنعم ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم   المؤيد بوحي السماء الموهوب من الحكمة السداد ، و  بعد  النظر ، وعظيم السياسة ، مالم يوهب نبي قبله ، ولم يعرف عن عظيم في التاريخ من قبله ومن بعده ، ورضي الله عن أسامة الشاب ، وهنيئاً له ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم  بكفاءة قيادته  وصدق عزيمته ، وحسن إسلامة ، رضي الله عنه وجعله قدوة لشبابنا المؤمنين العاملين 



و ـ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم 

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن علم من طريق الوحي بقرب أجله ، فودع الناس في حجة الوداع ، وكانت قلوب الصحابة واجفة هلعة خشية أن يكون أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم  قد اقترب ، ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر فلما أشيع عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اضطرب الصحابة جميعاً لهول الكارثة ، وزلزلت المدينة زلزالها ، وطاشت عقول كثيرة من كبار الصحابة والسابقين إلى الاسلام ،فمنهم من عقل لسانه ، ومنهم من أقعد عن الحركة ،  ومنهم وهو عمر من شهرسيفه ينهى الناس أن يقولوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ، ويزعم أنه غاب ، وسيرجع اليهم ، ولكن أبا بكر وحده هو الذي كان ثابت الجأش ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم  هو مسجى على فراشه ، فقبله وقال له : بأبي أنت وأمي يارسول الله ! ما أطيبك حياً وميتاً ! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موته أبداً ، يا رسول الله أذكرنا عند ربك .


 ثم خرج أبو بكر إلى الناس ، فخطب فيهم وقال : أيها الناس ! من كان يعبد محمداً ، فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا قوله تعالى  :  " وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلْ ، أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلْ انْقَلبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ ، وَمَنْ يَنْقَلبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئَاً ، وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [ آل عمران : 144] . فلما تلاها أبو بكر أفاقوا من هول الصدمة ، وكأنهم لم يسمعوها من قبل ، قال أبو هريرة : قال عمر : فوالله ما هو إلا أن سمعت أن أبا بكر تلاها فعقرت ـ أي دهشت وتحيرت ـ حتى وقعت إلى الأرض وما تحملتني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قد مات .



وهنا درسان بالغان :

أولهما : أن الصحابة دهشوا لموت رسول الله عليه وسلم ، حتى لكأن الموت لا يمكن أن يأتيه ، مع أن الموت نهاية كل حي ،  وما كان ذلك إلا لحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم  حباً أمتزج بدمائهم وأعصابهم ، والصدمة بفقد الأحباب تكون على  قدر الحب  ، ونحن نرى من يفقد ولداً أو أبا كيف يظل أياماً لا يصدق أنه فقده ، وأي حب في الدنيا يبلغ حب هؤلاء الصحابة الأبرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم  وقد هداهم الله به ، وانقذهم من  الظلمات إلى النور ، وغير حياتهم ، وفتح عقولهم وأبصارهم ، وسما بهم إلى مراتب القادة العظماء ،ثم هو في حياته مربيهم وقاضيهم ومرشدهم يلجؤون إليه في النكبات ، ويسترشدونه في الحوادث ، ويأخذون منه خطاب الله لهم وتعليمه لهم ، فلما  مات رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنقطع ذلك كله ، في صدمة أبلغ من هذه الصدمة وأشدها أثراً .

ثانيهما : أن موقف أبي بكر دل على أنه يتمتع برباطه جأش وقوة أعصاب عند النكبات لا يتمتع بها صحابي آخر . وهذا ما يجعله أولى الناس بخلاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، وقد أثبت ذلك في حروب الردة في جزيرة العرب .















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق